كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما خوفه ووجله فهو لكون تقصيره فيما عليه من موجبات العبودية للواحد القهار، وهذا الخوف تلتهب له نفسه، ويرتجف له جنانه.
يؤخذ من الآية: أن التقوى، والخشية، والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء، والإحسان إليهم، من أعظم ما ينال به العبد رضا اللّه تعالى، لما لها من الشأن العظيم، إذ عليها يقوم صلاح العباد والبلاد.
قال اللّه تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}.
البدن جمع بدنة، وهي اسم للواحد من الإبل ذكرا أو أنثى، سميت بذلك لعظم بدنها. وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير يهدى إلى الكعبة، وقد تطلق البدنة على البقرة أيضا لما أنها تجزئ في الهدي والأضحية عن سبعة كالبعير.
قال الحنفية: إن البدنة صارت من قبل المشترك في المعنيين، فمن نذر بدنة أجزأته بقرة. وبذلك قال عطاء وسعيد بن المسيب.
روى مسلم عن جابر رضي اللّه عنه أنه قال: كنّا ننحر البدنة عن سبعة: فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن.
وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّه قال: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
أما الشافعية فقالوا: لا تطلق البدن بالحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر إنما يكون بضرب من التجوّز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبهذا قال مجاهد، ويشهد له ما رواه أبو داود عن جابر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»
فإنّ العطف يقتضي المغايرة، والظاهر أنّ اسم البدنة حقيقة فيما يكون من الإبل، وأن إطلاقها على البقرة لم يصل إلى مرتبة الحقيقة.
فأمّا قول جابر: وهل هي إلا من البدن، وقول ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر، فقد يحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما، وعلى كلّ حال فالمراد من البدن في الآية الإبل، وقوله تعالى: {صَوافَّ} و{وَجَبَتْ جُنُوبُها} يدل على ذلك، إذ نحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصّة.
ولا يؤخذ من هذا أنّ الهدي خاص بالإبل. بل تخصيصها بالذكر لأنّها الأفضل من غيرها في الهدايا.
{صَوافَّ} جمع صافة، وهي ما صفت قوائمها وسوقها واقفة، وقرئ {صوافن} جمع صافنة، قيل: إنها بمعنى صافة، وقيل: بل بمعنى أنّها قائمة على ثلاث قوائم، والرابعة مرفوعة، وهكذا يفعل بالإبل عند نحرها، مأخوذ من صفن الفرس إذا وقفت على ثلاث وطرف سنبك الرابعة، وقرئ {صوافي} جمع صافية بمعنى خالصة للّه تعالى.
{وَجَبَتْ جُنُوبُها} من معاني الوجوب السقوط، وجب الجدار سقط، ووجبت الشمس غربت، فوجبت جنوبها سقطت على الأرض، والجنوب: جمع جنب، وهو الشق، وسقوط جنوبها كناية عن موتها.
{الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} القانع الراضي بما قدّر اللّه له من الفقر والبؤس، فلا يتعرّض لسؤال الناس، مأخوذ من قنع يقنع كرضي يرضى وزنا ومعنى.
المعتر المعترض لسؤال الناس، فإنّ المعترّ كالممعترى هو من يعترى الأغنياء، ويذهب إليهم المرّة بعد المرّة، وقيل بعكس هذا: القانع: السائل، من قنع يقنع بالفتح فيهما. والمعترّ: الذي لا يسأل، كأنّه يدفع عار السؤال بترك السؤال.
معنى الآية: أن اللّه سبحانه وتعالى يمتنّ على عباده بأن جعل لهم في البدن يسوقونها إلى مكة قربة عظيمة، حيث جعلها شعيرة من شعائره، وعلما من أعلام دينه، ودليلا على طاعته، ففي سوقها للحرم، ونحرها هناك، خير عظيم وثواب كبير، يناله أصحابها في الآخرة.
وهكذا ترى أننا قد حملنا الخير هنا على الثواب الآخروي. والمنافع فيما تقدم على حظ الدنيا، ليكون الكلام كما قلنا مفيدا فائدة جديدة، وقد رتّب اللّه سبحانه وتعالى الأمر بذبحها، أو الأمر بذكر اسمه الكريم عند الذبح على ما قبله من جعلها شعائر. أو على قوله: {لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} وأنه تعالى يمتنّ أيضا على عباده في هذه البدن، فأباح لهم إذا نحروها أن يأكلوا منها، وأن يتصدقوا على الفقراء، السائل منهم وغير السائل.
ثم ختم اللّه سبحانه وتعالى الآية بقوله: {كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعناه سخرنا هذه البدن، وذللناها لكم، وأخضعناها لتصريفكم مع ضخامتها وقوتها التي بها، كان يمكن أن تتأبّى عليكم فلا تعطيكم قيادها، أو تندّ منكم فتتأبد تأبد الوحوش.
فاللّه جلت قدرته قد سخّرها لكم ذلك التسخير العجيب، وسهل لكم أن تقفوها صواف، وأن تعقلوها، وتضربوا في لباتها، فتقع على جنوبها صريعة، وعلى هذا تكون الكاف صلة في قوله: {كَذلِكَ} ويكون مآل القول سخرناها لكم ذلك التسخير البديع.
ويصحّ أن تبقى الكاف على معناها مفيدة للتشبيه، ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة، كأن ذلك التسخير بلغ في عظمه وغرابته مبلغا فاق به كلّ عجيب، حتى إذا أريد تشبيهه بشيء كان لابد أن يردّ إلى نفسه فيشبه بها.
وقيل: إنّ المشبه به هو تسخيرها، حين تكون صواف معقولة إحدى القوائم، والمشبه هو تسخيرها من قبل في ركوبها والحمل عليها، وغير ذلك من سائر وجوه الانتفاع.
وجملة القول: إنّها نعمة جليلة، ومنّة عظيمة تستوجب من العباد أن يشكروا اللّه عليها، ويصرفوا ما أنعم به عليهم في الوجوه التي رسمها لهم الدين الحنيف.
فقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل لما قبله. وكلمة لعل فيه ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب، لأنّه مستحيل على اللّه تعالى من حيث أنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور. قال ابن الأنباري: إنّ لعلّ ترد بمعنى كي في لسان العرب، واستشهد على ذلك بقول من يراه حجة:
فقلتم لنا كّفوا الحروب لعلّنا ** نكفّ ووثقتم لنا كلّ موثق

فإنّ توثيق العهد بإنهاء الحرب لا يستقيم معه أن يكون معنى لعلنا الرجاء وتوقع الكف، إنما الذي يصلح له ذلك أن تكون لعلّ بمعنى كي.
هذا ويؤخذ من الاقتصار في الآية على البدن مع ورود الشرع بجواز الهدي من بهيمة الأنعام أنّ البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم.
ويؤخذ من الآية أيضا: الندب إلى نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم، وأنه لا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.
ومقتضى الأمر في قوله جلّ شأنه: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ} وجوب ذكر اسم اللّه حينئذ، وهو يؤيّد بظاهره قول من يرى من الأئمة وجوب التسمية على الذبيحة. ومن يرى ندب التسمية يؤوّل الأمر على الندب، أو يؤول ذكر اسم اللّه على الشكر والثناء.
أما حكم الأكل منها وإطعام الفقراء فقد سبق لك القول فيه.
قال اللّه تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلَكِن يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هداكم وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.
النيل: الإدراك والإصابة. والتكبير في الآية: قيل: إنه ما يكون عند الذبح: بسم اللّه، اللّه أكبر، والأحسن أن يفسّر بالتعظيم والتقديس والشكر. والإحسان: هو إتقان العمل، والإتيان به على الوجه المطلوب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه».
المعنى: بأنّ من يريد رضا اللّه تعالى فلا يظن أنه يدرك ذلك باللحوم والدماء من حيث إنها لحوم ودماء، وإنما ينال ذلك بالتقوى والإخلاص، في العمل، فإنّ الأعمال دون التقوى والإخلاص كصور أجسام لا روح فيها ولا حياة.
وللآية وجه آخر من التفسير- إن صح ما قيل في سبب نزولها- ذلك أنّه روي عن ابن عباس ومجاهد أنّ جماعة من المسلمين كانوا هموا أن يفعلوا في ذبائحهم فعل أهل الجاهلية، يقطعون لحومها، وينشرونها حول الكعبة، وينضحون عليها من دمائها، فنزلت الآية تزجرهم عن هذا الفعل، وترشدهم إلى ما هو الأجدر بهم والأليق بإيمانهم أن يفعلوه في ذبائحهم، حتى يدركوا رضا اللّه تعالى.
وعلى هذا يكون المعنى: أن من يريد رضا اللّه تعالى، ويرجو أن ينال منه المثوبة بما يقرّب من هدي، فلا يظن أنّه ينال ذلك باللحم يقطعه وينثره، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة فعل أهل الشرك من الجاهلية، وإنما ينال ذلك بتقوى اللّه، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجانب روح الإسلام وطهارته، والتي ليس فيها شيء من الإخلاص للّه.
فقوله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها} هو كما علمت على تقدير الرضا، أو ما في معناه. أي لن ينال رضا اللّه لحومها ولا دماؤها، ولَكِن ينال رضاه التقوى منكم.
وأنت ترى أنّ الآية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان اللّه، مع أنه ليس من شأنها أن يقال فيها: تنال أو لا تنال، ولَكِن قصد المبالغة في الأخبار بأنّ أصحابها لا ينالون الرضا والثواب بها وحدها إذا لم يكن معها التقوى والإخلاص هو الذي قضى أن يكون نظم الآية على هذا النحو البديع، كأنه قيل: إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر اللّه ورحمته صحّ أن يدرك أصحابها بها وحدها شيئا من ذلك، ففي الآية نوع من التجوز.
وترى أيضا أنه قد أعيد في الآية حديث تسخير الأنعام، وتذليلها للناس، لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة يبعث على شكرها والثناء على اللّه من أجلها، والقيام له بما يجب لعظمته وكبريائه، لأنّه تعالى سخر لهم تلك البهائم، وأخضعها لتصريفهم، وأراهم ما يصنعون فيها، وكيف يتقرّبون بها.
ومن هذا تعلم أن على في الآية الكريمة للتعليل، وأنّ ما مصدرية، ويصح أن تكون ما نكرة موصوفة، أو اسما موصولا مع مراعاة أن العائد محذوف، وفي صرف الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتبشير المحسنين أعمالهم الآتين بها على الوجه المطلوب، ووعدهم بأنّ لهم من اللّه الجزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا.
هذا وفي الآية دلالة على أنّ التقوى وشكر اللّه تعالى والإحسان في العمل له جلّ شأنه من أهمّ المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها أو التهاون فيها.
قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} يصحّ أن يكون هذا كلاما متصلا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ} وما وقع في البيت- من ذكر مناسك الحج وشعائره، وما فيها من منافع الدنيا والآخرة- استطراد لمزيد تعظيم شأن البيت الحرام الذي جعله اللّه مثابة للناس وأمنا، وتسجيل قبح صدهم للمسلمين عنه، وإخراج أهله منه ظلما وعدوانا، وتفويت هذه المنافع عليهم، لأنّ الجناية يعظم أمرها بعظم ما يترتب عليها من تفويت المنافع والإيقاع في الأضرار. ولأن خطورة الجناية تدلّ على خطر المجني عليه، وناهيك بجناية تقع على البيت الحرام، مع ما له من قداسة وحرمة، وتفوت على الناس منافع الحج مع ما فيها من خيري الدنيا والآخرة، ويكون قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} رجوعا إلى موضوع السياق، لبيان عاقبة هؤلاء الصادّين عن سبيل اللّه والمسجد الحرام، من قهرهم، وخذلانهم، وكسر شوكتهم، ونصر المسلمين عليهم، وإزالة صدهم، وتمكين المسلمين من البيت بعد تمكينهم منهم «إنّ اللّه ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته».
ويصحّ أن يكون متصلا بما قبله مباشرة، وذلك أنه تعالى لما بيّن مناسك الحج، وما فيه من المنافع، وكان في ذلك مزيد إلهاب وتشويق لنفوس المسلمين إلى البيت الحرام، والوقوف بالمشاعر العظام، ولَكِن أنّى لهم ذلك، وقد صدّهم المشركون، ووقفوا سدا منيعا دون إرواء هذه النفوس المتعطشة إلى رؤية هذا الحرم المقدس، الذي عاشوا طوال حياتهم في ظلّه وتحت حمايته، والذي عزّ عليهم فراقه، ولم ينقطع حنينهم إليه، والذي كان قلب الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه معلّقا به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «و اللّه إنّك لأحبّ أرض اللّه إلى، وإنك لأحبّ أرض اللّه إلى اللّه، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وإذا ذاك توجهت قلوبهم إلى ربّ هذا البيت، واستشرفت نفوسهم إلى عون اللّه ونصره وحماية بيته من عدوان المعتدين، وتخليصه من أيدي الجبابرة الظالمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} توطينا لنفوسهم، وتقوية لعزائمهم، وإعدادا لهم للجهاد والقتال الذي سيكون به تحقيق آمالهم، وتحرير أوطانهم وعقائدهم.
وعلى كلّ فهو وعد من اللّه عز وجل، وبشارة للمؤمنين بنصر اللّه لهم، وتمكينهم من عدوهم، وكف بوائقه عنهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم وكسر شوكتهم وزوال دولتهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
هذا وصيغة المفاعلة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ} إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط، لأنّ صيغة المفاعلة تدلّ على تكرر الفعل وحصوله من الجانبين، وقد تجرّد عن معنى حصوله من الجانبين، فتبقى دلالتها على التكرر من جانب واحد كالممارسة، أي أنه تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وبأسهم مبالغة لا تدع لهم غائلة من غوائلهم، أو أنه تعالى يدفع بأسهم وغوائلهم مرة بعد مرة حسبما يتجدد ذلك منهم، كقوله تعالى: {كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64].
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} نفي المحبة كناية عن البغض، وأوثر لا يحب على يبغض تنبيها على مكان التعريض، وأن المؤمنين هم أحباء اللّه وأولياؤه.
ومعنى {خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي خوان في أماناته تعالى، وهي أوامره ونواهيه، أو جميع الأمانات، ونظيره قوله تعالى: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} [الأنفال: 27] وكفور، أي لنعمه عز وجل.
قيل: إنه تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين في الجملة الأولى، وقيل: تعليل للوعد الكريم نفسه، وضعّف هذا بأنّ قول القائل: دفعت زيدا عن بكر لبغض زيد ليس فيه كثير عناية ببكر، وهذا لا يناسب المقام. وهناك وجه آخر في ربط الجملة الثانية بالأولى، وحاصله أنك عرفت أنّ الجملة الأولى مشتملة على وعد صراحة ووعيد ضمنا، وإذا نظرت إلى الجملة الثانية وجدت أنها مشتملة على ثبوت البغض للمشركين صراحة، وهو يناسب الوعيد الضمني في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى ثبوت المحبة للمؤمنين ضمنا كما هو قضية إيثار لا يحب على يبغض وهو يناسب الوعد المصرّح به في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى هذا يكون منطوق الجملة الثانية علة لمفهوم الجملة الأولى، ومفهومها علة لمنطوقها، ويصير المعنى هكذا: إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا لحبه إياهم، ويخذل المشركين ويقهرهم لبغضه إياهم، وعلى كلّ فإنّ ربط نفي الحب بالخوان الكفور يدلّ على أنّ علّة النفي هي الخيانة والكفر، ويدل بمفهومه على أنّ علة ثبوت المحبة في مقابله هي الأمانة والشكر، اللذان هما من خواص المؤمن.
وهنا أمران جديران بالالتفات:
الأول: أن صيغة المبالغة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} لبيان الواقع، وأنهم كانوا كذلك، لا لتقيد البغض بغاية الخيانة والكفر المشعر بمحبة اللّه تعالى للخائن الكافر، وكثيرا ما تذكر القيود لبيان الواقع، حتى قيل: إنّه الأصل في استعمالها، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً} [آل عمران: 130] ولا شكّ أنك إذا نظرت إلى هؤلاء المشركين، وما وقع منهم من الأفاعيل المنكرة، عرفت أنهم حقيقة بلغوا الغاية في الخيانة والكفر.